الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الجزء العشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (ص) فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنَ الْمُصَادَاةِ، مِنْ صَادَيْتَ فُلَانًا، وَهُوَ أَمْرٌ مِنْ ذَلِكَ، كَأَنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ: صَادَ بِعَمَلِكَ الْقُرْآنَ: أَيْ عَارَضَهُ بِهِ، وَمَنْ قَالَ هَذَا تَأْوِيلُهُ، فَإِنَّهُ يَقْرَؤُهُ بِكَسْرِ الدَّالِّ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ (ص) قَالَ: حَادَثَ الْقُرْآنَ. وَحُدِّثْتُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ (ص) قَالَ: عَارَضَ الْقُرْآنَ بِعَمَلِكَ. حُدِّثْتُ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ {ص وَالْقُرْآنِ} قَالَ: عَارِضِ الْقُرْآنَ، قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: يَقُولُ اعْرِضْهُ عَلَى عَمَلِكَ، فَانْظُرْ أَيْنَ عَمَلُكَ مِنَ الْقُرْآنِ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: ثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {ص وَالْقُرْآنِ} بِخَفْضِ الدَّالِ، وَكَانَ يَجْعَلُهَا مِنَ الْمُصَادَاةِ، يَقُولُ: عَارَضَ الْقُرْآنَ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ حَرْفُ هِجَاءٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَّا (ص) فَمِنَ الْحُرُوفِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ (ص) قَالَ: قَسَمٌ أَقْسَمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (ص) قَالَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: صَدَقَ اللَّهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ فَى قَوْلُهُ (ص) قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ خَلَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي إِسْحَاقَ وَعِيسَى بْنَ عُمَرَ، بِسُكُونِ الدَّالِ، فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ كَانَ يَكْسِرُهَا لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْأَدَاةِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: تَرَكَتْهُ حَاثِ بَاثِ، وَخَازِ بَازِ يَخْفِضَانِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الَّذِي يَلِي آخِرَ الْحُرُوفِ أَلِفٌ فَيَخْفِضُونَ مَعَ الْأَلِفِ، وَيَنْصِبُونَ مَعَ غَيْرِهَا، فَيَقُولُونَ حَيْثَ بَيْثَ، وَلَأَجْعَلَنَّكَ فِي حَيْصَ بَيْصَ: إِذَا ضَيَّقَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا عِيسَى بْنُ عُمَرَ فَكَانَ يُوَفِّقُ بَيْنَ جَمِيعِ مَا كَانَ قَبْلَ آخِرِ الْحُرُوفِ مِنْهُ أَلِفٌ، وَمَا كَانَ قَبْلَ آخِرِهِ يَاءٌ أَوْ وَاوٌ فَيَفْتَحُ جَمِيعَ ذَلِكَ وَيَنْصِبُهُ، فَيَقُولُ: ص وَق وَن وَيس، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مِثْلَ الْأَدَاةِ كَقَوْلِهِمْ: لَيْتَ، وَأَيْنَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا السُّكُونُ فِي كُلِّ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ مُسْتَفِيضَةً فِيهِمْ، وَأَنَّهَا حُرُوفُ هِجَاءٍ لِأَسْمَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ، فَيُعْرَبُ إِعْرَابَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَدَوَاتِ وَالْأَصْوَاتِ، فَيَسْلُكُ بِهِ مَسَالِكَهُنَّ، فَتَأْوِيلُهَا إِذْ كَانَتْ كَذَلِكَ تَأْوِيلُ نَظَائِرِهَا الَّتِي قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا قَبْلُ فِيمَا مَضَى. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ: (ص) فِي مَعْنَاهَا كَقَوْلِكَ: وَجَبَ وَاللَّهِ، نَزَلَ وَاللَّهِ، وَحَقَّ وَاللَّهِ، وَهِيَ جَوَابٌ لِقَوْلِهِ (وَالْقُرْآنِ) كَمَا تَقُولُ: حَقًّا وَاللَّهِ، نَزَلَ وَاللَّهِ. وَقَوْلُهُ {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} وَهَذَا قَسَمٌ أَقْسَمَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهَذَا الْقُرْآنِ فَقَالَ: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ (ذِي الذِّكْرِ) فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: ذِي الشَّرَفِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ سَعِيدٍ {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} قَالَ: ذِي الشَّرَفِ. حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ (ذِي الذِّكْرِ): ذِي الشَّرَفِ. قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَوْ غَيْرِهِ (ذِي الذِّكْرِ): ذِي الشَّرَفِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} قَالَ: ذِي الشَّرَفِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} ذِي الشَّرَفِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ مَعْنَاهُ: ذِي التَّذْكِيرِ، ذَكَّرَكُمُ اللَّهُ بِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ (ذِي الذِّكْرِ) قَالَ: فِيهِ ذِكْرُكُمْ، قَالَ: وَنَظِيرَتُهَا: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ}. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (ذِي الذِّكْرِ): أَيْ مَا ذُكِرَ فِيهِ. وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: ذِي التَّذْكِيرِ لَكُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ أَتْبَعَ ذَلِكَ قَوْلَهُ {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ ذِكْرًا لِعِبَادِهِ ذَكَّرَهُمْ بِهِ، وَأَنَّ الْكَفَّارَ مِنَ الْإِيمَانِ بِهِ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ. وَاخْتُلِفَ فِي الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْقَسَمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ، وَقَعَ الْقَسَمُ عَلَى قَوْلِهِ {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ. {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ} قَالَ: هَا هُنَا وَقَعَ الْقِسْمُ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ: "بَلْ" دَلِيلٌ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ، فَاكْتَفَى بِبَلْ مِنْ جَوَابِ الْقَسَمِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: ص، مَا الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ، بَلْ أَنْتُمْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَقُولُ: زَعَمُوا أَنَّ مَوْضِعَ الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: قَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ جَوَابَ (وَالْقُرْآنِ) قَوْلُهُ {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} قَالَ: وَذَلِكَ كَلَامٌ قَدْ تَأَخَّرَ عَنْ قَوْلِهِ (وَالْقُرْآنِ) تَأَخُّرًا شَدِيدًا، وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا قِصَصٌ، مُخْتَلِفَةٌ، فَلَا نَجِدُ ذَلِكَ مُسْتَقِيمًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّ قَوْلَهُ (وَالْقُرْآنِ) يَمِينٌ اعْتُرِضَ كَلَامٌ دُونَ مَوْقِعِ جَوَابِهَا، فَصَارَ جَوَابُهَا لِلْمُعْتَرِضِ وَلِلْيَمِينِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، لَكَمْ أَهْلَكْنَا، فَلَمَّا اعْتَرَضَ قَوْلُهُ {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ} صَارَتْ كَمْ جَوَابًا لِلْعِزَّةِ وَالْيَمِينِ. قَالَ: وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} اعْتَرَضَ دُونَ الْجَوَابِ قَوْلُهُ {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا} فَصَارَتْ قَدْ أَفْلَحَ تَابِعَةً لِقَوْلِهِ: فَأَلْهَمَهَا، وَكَفَى مِنْ جَوَابِ الْقَسَمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا لَقَدْ أَفْلَحَ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ (بَلْ) لَمَّا دَلَّتْ عَلَى التَّكْذِيبِ وَحَلَّتْ مَحَلَّ الْجَوَابِ اسْتُغْنِيَ بِهَا مِنَ الْجَوَابِ، إِذْ عُرِفَ الْمَعْنَى، فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} مَا الْأَمْرُ، كَمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْكَافِرُونَ: بَلْ هُمْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ. وَقَوْلُهُ {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فِي حَمِيَّةٍ وَمُشَاقَّةٍ، وَفِرَاقٍ لِمُحَمَّدٍ وَعَدَاوَةٍ، وَمَا بِهِمْ أَنْ لَا يَكُونُوا أَهْلَ عِلْمٍ، بِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَاحِرٍ وَلَا كَذَّابٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} قَالَ: مُعَازِّينَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}: أَيْ فِي حَمِيَّةٍ وَفِرَاقٍ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} قَالَ: يُعَادَوْنَ أَمْرَ اللَّهِ وَرُسُلَهُ وَكِتَابِهِ، وَيُشَاقُّونَ، ذَلِكَ عِزَّةٌ وَشِقَاقٌ، فَقُلْتُ لَهُ: الشِّقَاقُ: الْخِلَافُ، فَقَالَ: نَعَمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَثِيرًا أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ الَّذِينَ كَذَّبُوا رَسُولَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِنَا مِنَ الْحَقِّ (مِنْ قَرْنٍ) يَعْنِي: مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَهُمْ فِي تَكْذِيبِ رُسُلِهِمْ فِيمَا أَتَوْهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (فَنَادَوْا) يَقُولُ: فَعَجُّوا إِلَى رَبِّهِمْ وَضَجُّوا وَاسْتَغَاثُوا بِالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، حِينَ نَزَلَ بِهِمْ بَأْسُ اللَّهِ وَعَايَنُوا بِهِ عَذَابَهُ فِرَارًا مِنْ عِقَابِهِ، وَهَرَبًا مِنْ أَلِيمِ عَذَابِهِ {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} يَقُولُ: وَلَيْسَ ذَلِكَ حِينَ فِرَارٍ وَلَا هَرَبٍ مِنَ الْعَذَابِ بِالتَّوْبَةِ، وَقَدْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ، وَتَابُوا حِينَ لَا تَنْفَعُهُمُ التَّوْبَةُ، وَاسْتَقَالُوا فِي غَيْرِ وَقْتِ الْإِقَالَةِ. وَقَوْلُهُ (مَنَاصٍ) مَفْعَلٍ مِنَ النَّوْصِ، وَالنَّوْصُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: التَّأَخُّرُ، وَالْمَنَاصُ: الْمَفَرُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى إِذْ نَأَتْكَ تَنُوصُ *** فَتُقْصِرُ عَنْهَا خَطْوَةً وَتَبُوصُ يَقُولُ: أَوْ تَقَدَّمَ يُقَالُ مِنْ ذَلِكَ: نَاصَنِي فُلَانٌ: إِذَا ذَهَبَ عَنْكَ، وَبَاصَنِي: إِذَا سَبَقَكَ، وَنَاضَ فِي الْبِلَادِ: إِذَا ذَهَبَ فِيهَا، بِالضَّادِ. وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الْعَقِيلِيُّ أَنْشَدَهُ: إِذَا عَاشَ إِسْحَاقُ وَشَيْخُهُ لَمْ أُبَلْ *** فَقِيدًا وَلَمْ يَصْعُبْ عَلَيَّ مَنَاضُ وَلَوْ أَشْرَفَتْ مِنْ كُفَّةِ السِّتْرِ عَاطِلًا *** لَقُلْتُ غَزَالٌ مَا عَلَيْهِ خُضَاضُ وَالْخُضَاضُ: الْحُلِيُّ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ التَّمِيمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} قَالَ: لَيْسَ بِحِينِ نَزْوٍ، وَلَا حِينِ فِرَارٍ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} قَالَ: لَيْسَ بِحِينِ نَزْوٍ وَلَا فِرَارٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ التَّمِيمِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَوْلُ اللَّهِ {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} قَالَ: لَيْسَ حِينَ نَزْوٍ وَلَا فِرَارٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} قَالَ: لَيْسَ حِينَ نَزْوٍ وَلَا فِرَارٍ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} يَقُولُ: لَيْسَ حِينَ مَغَاثٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ. قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِحِينِ فِرَارٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} قَالَ: نَادَى الْقَوْمُ عَلَى غَيْرِ حِينِ نِدَاءٍ، وَأَرَادُوا التَّوْبَةَ حِينَ عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ ذَلِكَ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} قَالَ: حِينَ نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ لَمْ يَسْتَطِيعُوا الرُّجُوعَ إِلَى التَّوْبَةِ، وَلَا فِرَارًا مِنَ الْعَذَابِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} يَقُولُ: وَلَيْسَ حِينَ فِرَارٍ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} وَلَاتَ حِينَ مَنْجَى يَنْجُونَ مِنْهُ، وَنُصِبَ حِينٌ فِي قَوْلِهِ {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} تَشْبِيهًا لِلَّاتَ بِلَيَسَ، وَأُضْمِرَ فِيهَا اسْمُ الْفَاعِلِ. وَحَكَى بَعْضُ نَحْوِيِّي أَهْلِ الْبَصْرَةِ الرَّفْعَ مَعَ لَاتَ فِي حِينَ زَعَمَ أَنَّ بَعْضُهُمْ رَفَعَ"وَلَاتَ حِينُ مَنَاصٍ" فَجَعَلَهُ فِي قَوْلِهِ لَيْسَ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ وَأُضْمِرُ الْحِينُ، قَالَ: وَفِي الشِّعْرِ: طَلَبُوا صُلْحَنَا وَلَاتَ أَوَانِ *** فَأَجَبْنَا أَنْ لَيْسَ حِينَ بَقَاءِ فَجَرَّ"أَوَانَ" وَأَضْمَرَ الْحِينَ إِلَى أَوَانِ، لِأَنَّ لَاتَ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْحِينِ، قَالَ: وَلَا تَكُونُ لَاتَ إِلَّا مَعَ حِينِ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُضِيفُ لَاتَ فَيُخْفِضُ بِهَا، وَذُكِرَ أَنَّهُ أَنْشَدَ: لَاتَ سَاعَةِ مَنْدَمِ بِخَفْضِ السَّاعَةِ، قَالَ: وَالْكَلَامُ أَنْ يَنْصُبَ بِهَا، لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى لَيْسَ، وَذُكِرَ أَنَّهُ أَنْشَدَ: تَذَكَّرَ حُبَّ لَيْلَى لَاتَ حِينَا *** وَأَضْحَى الشَّيْبُ قَدْ قَطَعَ الْقَرِينَا قَالَ: وَأَنْشَدَنِي بَعْضُهُمْ: طَلَبُوا صُلْحَنَا وَلَاتَ أَوَانٍ *** فَأَجَبْنَا أَنْ لَيْسَ حِينَ بَقَاءِ بِخَفْضِ"أَوَانٍ"، قَالَ: وَتَكُونُ لَاتَ مَعَ الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الْوَقْفِ عَلَى قِرَاءَةِ: (لَاتَ حِينَ) فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَلَاتْ بِالتَّاءِ، ثُمَّ يُبْتَدَأُ حِينَ مَنَاصٍ، قَالُوا: وَإِنَّمَا هِيَ"لَا" الَّتِي بِمَعْنَى: "مَا"، وَإِنَّ فِي الْجَحْدِ وُصِلَتْ بِالتَّاءِ، كَمَا وُصِلَتْ ثُمَّ بِهَا، فَقِيلَ: ثُمَّتْ، وَكَمَا وُصِلَتْ رُبَّ فَقِيلَ: رُبَّتْ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ هِيَ هَاءٌ زِيدَتْ فِي لَا فَالْوَقْفُ عَلَيْهَا لَاهٍ، لِأَنَّهَا هَاءٌ زِيدَتْ لِلْوَقْفِ، كَمَا زِيدَتْ فِي قَوْلِهِمْ: الْعَاطِفُونَةَ حِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ *** وَالْمُطْعِمُونَةَ حِينَ أَيْنَ الْمَطْعَمُ فَإِذَا وُصِلَتْ صَارَتْ تَاءً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَقْفُ عَلَى"لَا"، وَالِابْتِدَاءُ بَعْدَهَا تَحَيَّنَ، وَزَعَمَ أَنَّ حُكْمَ التَّاءِ أَنْ تَكُونَ فِي ابْتِدَاءٍ حِينَ، وَأَوَانُ، وَالْآنَ، وَيَسْتَشْهِدُ لِقِيلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: تَوَلَّى قَبْلَ يَوْمِ سَبْيٍ جُمَانَا *** وَصَلِينَا كَمَا زَعَمْتِ تَلَانَا وَأَنَّهُ لَيْسَ هَا هُنَا"لَا" فَيُوَصَلُ بِهَا هَاءٌ أَوْ تَاءٌ، وَيَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ (لَاتَ حِينَ) إِنَّمَا هِيَ: لَيْسَ حِينَ، وَلَمْ تُوجَدْ لَاتَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: أَنْ"لَا" حَرْفُ جَحْدٍ كَمَا، وَإِنْ وَصَلْتَ بِهَا تَصِيرُ فِي الْوَصْلِ تَاءً، كَمَا فَعَلَتِ الْعَرَبُ ذَلِكَ بِالْأَدَوَاتِ، وَلَمْ تُسْتَعْمَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ مَعَ"لَا" الْمُدَّةِ إِلَّا لِلْأَوْقَاتِ دُونَ غَيْرِهَا، وَلَا وَجْهَ لِلْعِلَّةِ الَّتِي اعْتَلَ بِهَا الْقَائِلُ: إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ لَاتَ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، فَيَجُوزُ تَوْجِيهُ قَوْلِهِ (وَلَاتَ حِينَ) إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهَا تَسْتَعْمِلُ الْكَلِمَةَ فِي مَوْضِعٍ، ثُمَّ تَسْتَعْمِلُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَبْعَدِ فِي الْقِيَاسِ مِنَ الصِّحَّةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَأَيْتُ بِالْهَمْزِ، ثُمَّ قَالُوا: فَأَنَا أَرَاهُ بِتَرْكِ الْهَمْزِ لِمَا جَرَى بِهِ اسْتِعْمَالُهُمْ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْحُرُوفِ الَّتِي تَأْتِي فِي مَوْضِعٍ عَلَى صُورَةٍ، ثُمَّ تَأْتِي بِخِلَافِ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لِلْجَارِي مِنِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ ذَلِكَ بَيْنَهَا. وَأَمَّا مَا اسْتُشْهِدَ بِهِ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ: "وَكَمَا زَعَمَتْ تَلَانَا"، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ غَلَطٌ فِي تَأْوِيلِ الْكَلِمَةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ: "وَصِلِينَا كَمَا زَعَمَتْ تَلَانَا": وَصَلِينَا كَمَا زَعَمْتَ أَنْتَ الْآنَ، فَأَسْقَطَ الْهَمْزَةَ مِنْ أَنْتَ، فَلَقِيَتِ التَّاءُ مِنْ زَعَمْتَ النُّونَ مِنْ أَنْتَ وَهِيَ سَاكِنَةٌ، فَسَقَطَتْ مِنَ اللَّفْظِ، وَبَقِيَتِ التَّاءُ مِنْ أَنْتَ، ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ مِنَ الْآنَ، فَصَارَتِ الْكَلِمَةُ فِي اللَّفْظِ كَهَيْئَةِ تَلَّانِ، وَالتَّاءُ الثَّانِيَةُ عَلَى الْحَقِيقَةِ مُنْفَصِلَةٌ مِنَ الْآنَ، لِأَنَّهَا تَاءُ أَنْتَ. وَأَمَّا زَعْمُهُ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْإِمَامُ التَّاءَ مُتَّصِلَةً بِحِينَ، فَإِنَّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ مَصَاحِفُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْصَارِهَا هُوَ الْحُجَّةُ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّاءُ فِي جَمِيعِهَا مُنْفَصِلَةٌ عَنْ حِينَ، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ عَلَى الْهَاءِ فِي قَوْلِهِ (وَلَاتَ حِينَ)
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَعَجِبَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ يُنْذِرُهُمْ بَأْسَ اللَّهِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَأْتِهِمْ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِذَلِكَ {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} يَقُولُ: وَقَالَ الْمُنْكِرُونَ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ: هَذَا، يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَاحِرٌ كَذَّابٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ (سَاحِرٌ كَذَّابٌ) يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} يَقُولُ: وَقَالَ هَؤُلَاءِ الْكَافِرُونَ الَّذِينَ قَالُوا: مُحَمَّدٌ سَاحِرٌ كَذَّابٌ: أَجَعَلَ مُحَمَّدٌ الْمَعْبُودَاتِ كُلَّهَا وَاحِدًا، يَسْمَعُ دُعَاءَنَا جَمِيعَنَا، وَيَعْلَمُ عِبَادَةَ كُلِّ عَابِدٍ عَبَدَهُ مِنَّا {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}: أَيْ إِنَّ هَذَا لِشَيْءٌ عَجِيبٌ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} قَالَ: عَجِبَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَقَالُوا: يَسْمَعُ لِحَاجَاتِنَا جَمِيعًا إِلَهٌ وَاحِدٌ! مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ. وَكَانَ سَبَبُ قِيلِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوهُ، مِنْ ذَلِكَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: أَسْأَلُكُمْ أَنْ تُجِيبُونِي إِلَى وَاحِدَةٍ تَدِينُ لَكُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُعْطِيكُمْ بِهَا الْخَرَاجَ الْعَجَمُ" فَقَالُوا: وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ: "تَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} تَعَجُّبًا مِنْهُمْ مَنْ ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَابْنُ وَكِيعٍ، قَالَا ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: ثَنَا الْأَعْمَشُ، قَالَ: ثَنَا عَبَّادٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فَقَالُوا: إِنِ ابْنَ أَخِيكَ يَشْتُمُ آلِهَتَنَا، وَيَفْعَلُ وَيَفْعَلُ، وَيَقُولُ وَيَقُولُ، فَلَوْ بَعَثْتَ إِلَيْهِ فَنَهَيْتَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِي طَالِبٍ قَدْرَ مَجْلِسِ رَجُلٍ، قَالَ: فَخَشِيَ أَبُو جَهْلٍ إِنْ جَلَسَ إِلَى جَنْبِ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَكُونَ أَرَقَّ لَهُ عَلَيْهِ، فَوَثَبَ فَجَلَسَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَلَمْ يَجِدْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا قُرْبَ عَمِّهِ، فَجَلَسَ عِنْدَ الْبَابِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالِبٍ: أَيِ ابْنَ أَخِي، مَا بَالُ قَوْمِكَ يَشُكُّونَكَ؟ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَشْتُمُ آلِهَتَهُمْ، وَتَقُولُ وَتَقُولُ، قَالَ: فَأَكْثَرُوا عَلَيْهِ الْقَوْلَ، وَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا عَمِّ إِنِّي أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يَقُولُونَهَا، تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ"، فَفَزِعُوا لِكَلِمَتِهِ وَلِقَوْلِهِ، فَقَالَ الْقَوْمُ: كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ؟ نَعَمْ وَأَبِيكَ عَشْرًا، فَقَالُوا: وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَأَيُّ كَلِمَةٍ هِيَ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "، قَالَ: فَقَامُوا فَزِعِينَ يَنْفُضُونَ ثِيَابَهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} قَالَ: وَنَزَلَتْ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى قَوْلِهِ {لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ}» اللَّفْظُ لِأَبِي كُرَيْبٍ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، وَهُمْ حَوْلَهُ جُلُوسٌ، وَعِنْدَ رَأْسِهِ مَكَانٌ فَارِغٌ، فَقَامَ أَبُو جَهْلٍ فَجَلَسَ فِيهِ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: يَا ابْنَ أَخِي مَا لِقَوْمِكَ يَشُكُّونَكَ؟ قَالَ: يَا عَمِّ أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " فَقَامُوا وَهُمْ يَقُولُونَ: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} وَنَزَلَ الْقُرْآنُ: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} ذِي الشَّرَفِ {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} حَتَّى قَوْلِهِ {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا}». حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذِي الشَّرَفِ، وَقَالَ: إِلَى قَوْلِهِ {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: «مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ، قَالَ: فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَكَانَ عِنْدَ رَأْسِهِ مَقْعَدُ رَجُلٍ، فَقَامَ أَبُو جَهْلٍ، فَجَلَسَ فِيهِ، فَشَكَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَقَعُ فِي آلِهَتِنَا، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مَا تُرِيدُ إِلَى هَذَا؟ قَالَ: "يَا عَمِّ إِنِّي أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمُ الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ" قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "، فَقَالُوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}».
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَانْطَلَقَ الْأَشْرَافُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، الْقَائِلِينَ: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} بِأَنِ امْضُوا فَاصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ وَعِبَادَةِ آلِهَتِكُمْ. فَأَنْ مِنْ قَوْلِهِ (أَنِ امْشُوا) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ يَتَعَلَّقُ انْطَلَقُوا بِهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: انْطَلَقُوا مَشْيًا، وَمَضَيَا عَلَى دِينِكُمْ. وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: "وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ يَمْشُونَ أَنِ اصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ". وَذُكِرَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ كَانَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} قَالَ: عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ. وَقَوْلُهُ {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}: أَيْ إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي يَقُولُ مُحَمَّدٌ، وَيَدْعُونَا إِلَيْهِ، مِنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، شَيْءٌ يُرِيدُهُ مِنَّا مُحَمَّدٌ يَطْلُبُ بِهِ الِاسْتِعْلَاءَ عَلَيْنَا، وَأَنْ نَكُونَ لَهُ فِيهِ أَتْبَاعًا وَلَسْنَا مُجِيبِيهِ إِلَى ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا الَّذِي يَدْعُونَا إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ مِنَ الْبَرَاءَةِ مِنْ جَمِيعِ الْآلِهَةِ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَبِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي جَاءَ بِهِ فِي الْمِلَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ، قَالُوا: وَهِيَ الْمِلَّةُ الْآخِرَةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} يَقُولُ: النَّصْرَانِيَّةُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} يَعْنِي النَّصْرَانِيَّةَ، فَقَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ حَقًّا أَخْبَرَتْنَا بِهِ النَّصَارَى. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَبِيدٍ، عَنِ الْقُرْطُبِيِّ فِي قَوْلِهِ {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} قَالَ: مِلَّةُ عِيسَى. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} النَّصْرَانِيَّةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَوْا بِذَلِكَ: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي دِينِنَا دِينِ قُرَيْشٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} قَالَ: مِلَّةُ قُرَيْشٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} قَالَ: مِلَّةُ قُرَيْشٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ}: أَيْ فِي دِينِنَا هَذَا، وَلَا فِي زَمَانِنَا قَطُّ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} قَالَ: الْمِلَّةُ الْآخِرَةُ: الدِّينُ الْآخَرُ. قَالَ: وَالْمِلَّةُ الدِّينُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَلَأَ الَّذِينَ انْطَلَقُوا نَفَرٌ مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ، مِنْهُمْ أَبُو جَهْلٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ «أَنَّ أُنَاسًا مِنْ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا، فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وُالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَالْأُسُودُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَالْأُسُودُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ فِي نَفَرٍ مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَلْنُكَلِّمْهُ فِيهِ، فَلْيُنْصِفْنَا مِنْهُ، فَيَأْمُرُهُ فَلِيَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا، وَنَدَعُهُ وَإِلَهَهُ الَّذِي يَعْبُدُ، فَإِنَّا نَخَافُ أَنَّ يَمُوتَ هَذَا الشَّيْخُ، فَيَكُونُ مِنَّا شَيْءٌ، فَتُعَيِّرُنَا الْعَرَبُ فَيَقُولُونَ: تَرَكُوهُ حَتَّى إِذَا مَاتَ عَمُّهُ تَنَاوَلُوهُ، قَالَ: فَبَعَثُوا رَجُلًا مِنْهُمْ يُدْعَى الْمُطَّلِبُ، فَاسْتَأْذَنَ لَهُمْ عَلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ مَشْيَخَةُ قَوْمِكَ وَسَرَوَاتُهُمْ يَسْتَأْذِنُونَ عَلَيْكَ، قَالَ: أَدْخِلْهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ أَنْتَ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، فَأَنْصِفْنَا مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَمُرْهُ فَلْيَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا، وَنَدَعَهُ وَإِلَهَهُ، قَالَ: فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي هَؤُلَاءِ مَشْيَخَةُ قَوْمِكَ وَسَرَوَاتُهُمْ، وَقَدْ سَأَلُوكَ النَّصَفَ أَنْ تَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِهِمْ، وَيَدْعُوَكَ وَإِلَهَكَ، قَالَ: فَقَالَ: "أَيْ عَمِّ أَوَلَا أَدْعُوهُمْ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْهَا؟ " قَالَ: وَإِلَامَ تَدْعُوهُمْ؟ قَالَ: "أَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلِمَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ وَيَمْلِكُونَ بِهَا الْعَجَمَ"، قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ: مَا هِيَ وَأَبِيكَ لَنُعْطِيَنَّكَهَا وَعَشْرَ أَمْثَالِهَا، قَالَ: "تَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ". قَالَ: فَنَفَرُوا وَقَالُوا: سَلْنَا غَيْرَ هَذِهِ، قَالَ: "لَوْ جِئْتُمُونِي بِالشَّمْسِ حَتَّى تَضَعُوهَا فِي يَدِي مَا سَأَلْتُكُمْ غَيْرَهَا"، قَالَ: فَغَضِبُوا وَقَامُوا مِنْ عِنْدِهِ غِضَابًا وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَنَشْتُمَنَّكَ وَالَّذِي يَأْمُرُكَ بِهَذَا {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}.. إِلَى قَوْلِهِ (إِلَّا اخْتِلَاقٌ) وَأَقْبَلَ عَلَى عَمِّهِ، فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ: يَا ابْنَ أَخِي مَا شَطَطْتَ عَلَيْهِمْ، فَأَقْبَلَ عَلَى عَمِّهِ فَدَعَاهُ، فَقَالَ: "قُلْ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "، فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تَعِيبَكُمْ بِهَا الْعَرَبُ يَقُولُونَ جَزَعَ مِنَ الْمَوْتِ لَأَعْطَيْتُكَهَا، وَلَكِنْ عَلَى مِلَّةِ الْأَشْيَاخِ، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}». حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} قَالَ: نَزَلَتْ حِينَ انْطَلَقَ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَكَلَّمُوهُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ: مَا هَذَا الْقُرْآنُ إِلَّا اخْتِلَاقٌ: أَيُّ كَذِبٌ اخْتَلَقَهُ مُحَمَّدٌ وَتَخَرَّصَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} يَقُولُ: تَخْرِيصٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} قَالَ: كَذِبٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ}: يَقُولُ: كَذِبٌ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} إِلَّا شَيْءٌ تَخْلُقُهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} اخْتَلَقَهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} قَالُوا: إِنَّ هَذَا إِلَّا كَذِبٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبَرًا عَنْ قِيلِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ: أَأُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا فَخَصَّ بِهِ، وَلَيْسَ بِأَشْرَفِ مِنَّا حَسَبًا. وَقَوْلُهُ {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا بِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ لَا يَكُونُوا أَهْلَ عِلْمٍ بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَادِقٌ، وَلَكِنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْ وَحْيِنَا إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِنَا {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} يَقُولُ: بَلْ لَمْ يَنْزِلْ بِهِمْ بَأْسُنَا، فَيَذُوقُوا وَبَالَ تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا، وَشَكِّهِمْ فِي تَنْزِيلِنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَيْهِ، وَلَوْ ذَاقُوا الْعَذَابَ عَلَى ذَلِكَ عَلِمُوا وَأَيْقَنُوا حَقِيقَةَ مَا هُمْ بِهِ مُكَذِّبُونَ، حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ عِلْمُهُمْ {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَمْ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ وَحْيَ اللَّهِ إِلَى مُحَمَّدٍ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ، يَعْنِي مَفَاتِيحَ رَحْمَةِ رَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ، الْعَزِيزِ فِي سُلْطَانِهِ، الْوَهَّابُ لِمَنْ يَشَاءُ مَنْ خَلْقِهِ، مَا يَشَاءُ مِنْ مُلْكٍ وَسُلْطَانٍ وَنُبُوَّةٍ، فَيَمْنَعُوكَ يَا مُحَمَّدُ، مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَفَضَّلَكَ بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَمْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} فَإِنَّهُ لَا يُعَازُّنِي وَيُشَاقُّنِي مَنْ كَانَ فِي مُلْكِي وَسُلْطَانِي. وَقَوْلُهُ {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} يَقُولُ: وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، فَلْيَصْعَدُوا فِي أَبْوَابِ السَّمَاءِ وَطُرُقِهَا، فَإِنْ مَنْ كَانَ لَهُ مُلْكُ شَيْءٍ لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ الْإِشْرَافُ عَلَيْهِ، وَتَفَقُّدُهُ وَتَعَهُّدُهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} قَالَ: طُرُقُ السَّمَاءِ وَأَبْوَابُهَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} يَقُولُ: فِي أَبْوَابِ السَّمَاءِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ (فِي الْأَسْبَابِ) قَالَ: أَسْبَابُ السَّمَاوَاتِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} قَالَ: طُرُقُ السَّمَاوَاتِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَقُولُ: إِنْ كَانَ {لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} يَقُولُ: فَلْيَرْتَقُوا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} يَقُولُ: فِي السَّمَاءِ. وَذُكِرَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي ذَلِكَ مَا حُدِّثْتُ عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: الْأَسْبَابُ: أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، وَأَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ، وَهُوَ بِكُلِّ مَكَانٍ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُرَى. وَأَصْلُ السَّبَبِ عِنْدَ الْعَرَبِ: كُلُّ مَا تُسُبِّبَ بِهِ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى الْمَطْلُوبِ مِنْ حَبْلٍ أَوْ وَسِيلَةٍ، أَوْ رَحِمٍ، أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ طَرِيقٍ، أَوْ مَحَجَّةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هُمْ (جُنْدٌ) يَعْنِي الَّذِينَ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ هُنَالِكَ، يَعْنِي: بِبَدْرٍ مَهْزُومٌ. وَقَوْلُهُ (هُنَالِكَ) مِنْ صِلَةِ مَهْزُومٍ وَقَوْلُهُ (مِنَ الْأَحْزَابِ) يَعْنِي مِنْ أَحْزَابِ إِبْلِيسَ وَأَتْبَاعِهِ الَّذِينَ مَضَوْا قَبْلَهُمْ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ. وَ"مِنْ" مِنْ قَوْلِهِ (مِنَ الْأَحْزَابِ) مِنْ صِلَةِ قَوْلِهِ جُنْدٌ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ: هُمْ جُنْدٌ مِنَ الْأَحْزَابِ مَهْزُومٌ هُنَالِكَ، وَمَا فِي قَوْلِهِ (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ) صِلَةٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} قَالَ: قُرَيْشٌ مِنَ الْأَحْزَابِ، قَالَ: الْقُرُونُ الْمَاضِيَةُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} قَالَ: وَعَدَهُ اللَّهُ وَهُوَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَنَّهُ سَيَهْزِمُ جُنْدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَجَاءَ تَأْوِيلُهَا يَوْمَ بَدْرٍ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ} مَغْلُوبٌ عَنْ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَذَّبَتْ قَبْلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مَنْ قُرَيْشٍ، الْقَائِلِينَ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا، رُسُلَهَا، قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قِيلَ لِفِرْعَوْنَ ذُو الْأَوْتَادِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قِيلَ ذَلِكَ لَهُ لِأَنَّهُ كَانَتْ لَهُ مَلَاعِبُ مِنْ أَوْتَادٍ، يَلْعَبُ لَهُ عَلَيْهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْهَيْثَمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} قَالَ: كَانَتْ مَلَاعِبَ يُلْعَبُ لَهُ تَحْتَهَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} قَالَ: كَانَ لَهُ أَوْتَادٌ وَأَرْسَانٌ، وَمَلَاعِبُ يَلْعَبُ لَهُ عَلَيْهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ قِيلَ ذَلِكَ لَهُ كَذَلِكَ لِتَعْذِيبِهِ النَّاسَ بِالْأَوْتَادِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ،، قَوْلُهُ (ذُو الْأَوْتَادِ) قَالَ: كَانَ يُعَذِّبُ النَّاسَ بِالْأَوْتَادِ، يُعَذِّبُهُمْ بِأَرْبَعَةِ أَوْتَادٍ، ثُمَّ يَرْفَعُ صَخْرَةً تُمَدُّ بِالْحِبَالِ، ثُمَّ تُلْقَى عَلَيْهِ فَتَشْدَخُهُ. حُدِّثْتُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْهَيْثَمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ يُعَذِّبُ النَّاسَ بِالْأَوْتَادِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: ذُو الْبُنْيَانِ، قَالُوا: وَالْبُنْيَانُ: هُوَ الْأَوْتَادُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْمُحَارِبِي، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ (ذُو الْأَوْتَادِ) قَالَ: ذُو الْبُنْيَانِ. وَأَشْبَهُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِذَلِكَ الْأَوْتَادُ، إِمَّا لِتَعْذِيبِ النَّاسِ، وَإِمَّا لِلَعِبٍ، كَانَ يُلْعَبُ لَهُ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ مَعْنَى الْأَوْتَادِ، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَخْبَارَ كُلِّ هَؤُلَاءِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا. {وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} يَعْنِي: وَأَصْحَابُ الْغَيْضَةِ. وَكَانَ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ فِيمَا حُدِّثْتُ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ أَبِي عَمْرٍو يَقُولُ: الْأَيْكَةُ: الْحَرَجَةُ مِنَ النَّبْعِ وَالسِّدْرِ، وَهُوَ الْمُلْتَفُّ مِنْهُ، قَالَ الشَّاعِرُ: أَفَمِنْ بُكَاءِ حَمَامَةٍ فِي أَيْكَةٍ *** يَرْفَضُّ دَمْعُكَ فَوْقَ ظَهْرِ الْمَحْمِلِ يَعْنِي: مَحْمِلَ السَّيْفِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} قَالَ: كَانُوا أَصْحَابَ شَجَرٍ، قَالَ: وَكَانَ عَامَّةَ شَجَرِهِمُ الدَّوْمُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ {وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} قَالَ: أَصْحَابُ الْغَيْضَةِ. وَقَوْلُهُ (أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَاتُ الْمُجْتَمِعَةُ، وَالْأَحْزَابُ الْمُتَحَزِّبَةُ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، الَّذِينَ مِنْهُمْ يَا مُحَمَّدُ مُشْرِكُو قَوْمِكَ، وَهُمْ مُسْلُوكٌ بِهِمْ سَبِيلُهُمْ. {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} يَقُولُ: مَا كَلُّ هَؤُلَاءِ الْأُمَمِ إِلَّا كَذَّبَ رُسُلَ اللَّهِ، وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا ذُكِرَ لِي: "إِنْ كُلٌّ لَمَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَ عِقَابِ" يَقُولُ: فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ عِقَابُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} قَالَ: هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ، فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ) الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ مِنْ قُرَيْشٍ (إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً) يَعْنِي بِالصَّيْحَةِ الْوَاحِدَةِ: النَّفْخَةَ الْأُولَى فِي الصُّورِ (مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ) يَقُولُ: مَا لِتِلْكَ الصَّيْحَةِ مِنْ فِيقَةٍ، يَعْنِي مِنْ فُتُورٍ وَلَا انْقِطَاعٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} يَعْنِي: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ}. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ خَلَقَ الصُّورَ، فَأَعْطَاهُ إِسْرَافِيلَ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ شَاخِصٌ بِبَصَرِهِ إِلَى الْعَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الصُّورُ؟ قَالَ: "قَرْنٌ"، قَالَ: كَيْفَ هُوَ؟ قَالَ: "قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلَاثُ نَفَخَاتٍ: نَفْخَةُ الْفَزَعِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ، وَالثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، يَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الْفَزَعِ، فَيَفْزَعُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَأْمُرُهُ اللَّهُ فَيُدِيمُهَا وَيُطَوِّلُهَا، فَلَا يَفْتُرُ وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ {مَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ}». وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي بِذَلِكَ: مَا لِتِلْكَ الصَّيْحَةِ مِنِ ارْتِدَادٍ وَلَا رُجُوعٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} يَقُولُ: مِنْ تَرْدَادٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} يَقُولُ: مَا لَهَا مِنْ رَجْعَةٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} قَالَ: مِنْ رُجُوعٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} يَعْنِي السَّاعَةَ مَا لَهَا مِنْ رُجُوعٍ وَلَا ارْتِدَادٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: مَا لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ ذَلِكَ إِفَاقَةٌ وَلَا رُجُوعٌ إِلَى الدُّنْيَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} يَقُولُ: لَيْسَ لَهُمْ بَعْدَهَا إِفَاقَةٌ وَلَا رُجُوعٌ إِلَى الدُّنْيَا. وَقَالَ آخَرُونَ: الصَّيْحَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْعَذَابُ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: مَا يُنْتَظَرُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ إِلَّا عَذَابًا يُهْلِكُهُمْ، لَا إِفَاقَةَ لَهُمْ مِنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} قَالَ: مَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ، يَا لَهَا مِنْ صَيْحَةٍ لَا يُفِيقُونَ فِيهَا كَمَا يُفِيقُ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ وَكَمَا يُفِيقُ الْمَرِيضُ تُهْلِكُهُمْ، لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا إِفَاقَةٌ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ (مِنْ فَوَاقٍ) بِفَتْحِ الْفَاءِ. وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ: " مِنْ فُوَاقٍ" بِضَمِّ الْفَاءِ. وَاخْتَلَفَتْ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَاهَا إِذَا قُرِئَتْ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا، فَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْهُمْ: مَعْنَاهَا، إِذَا فُتِحَتِ الْفَاءُ: مَا لَهَا مِنْ رَاحَةٍ، وَإِذَا ضُمَّتْ جَعَلَهَا فُوَاقُ نَاقَةٍ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ. وَكَانَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ مِنْهُمْ يَقُولُ: مَعْنَى الْفَتْحِ وَالضَّمِّ فِيهَا وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا هُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ السَّوَافِ وَالسُّوَافُ، وَجَمَّامُ الْمَكُّوكِ وَجُمَّامُهُ، وَقَصَّاصُ الشِّعْرِ وَقُصَّاصُهُ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ، وَذَلِكَ أَنَّا لَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي قِرَاءَتِهِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَعْنَى الضَّمِّ فِيهِ وَالْفَتْحِ، وَلَوْ كَانَ مُخْتَلِفَ الْمَعْنَى بِاخْتِلَافِ الْفَتْحِ فِيهِ وَالضَّمِّ، لَقَدْ كَانُوا فَرَّقُوا بَيْنَ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَبِأَيِّ الْقِرَاءَتَيْنِ قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَفَاقَتِ النَّاقَةُ، فَهِيَ تُفِيقُ إِفَاقَةً، وَذَلِكَ إِذَا رَدَّتْ مَا بَيْنَ الرَّضْعَتَيْنِ وَلَدَهَا إِلَى الرَّضْعَةِ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ أَنْ تُرْضِعَ الْبَهِيمَةَ أُمُّهَا، ثُمَّ تَتْرُكُهَا حَتَّى يَنْزِلَ شَيْءٌ مِنَ اللَّبَنِ، فَتِلْكَ الْإِفَاقَةُ، يُقَالُ إِذَا اجْتَمَعَ ذَلِكَ فِي الضَّرْعِ فِيقَةٌ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: حَتَّى إِذَا فِيْقَةٌ فِي ضَرْعِهَا اجْتَمَعَتْ *** جَاءَتْ لِتُرْضِعَ شِقَّ النَّفْسِ لَوْ رَضَعَا وَقَوْلُهُ {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ مِنْ قُرَيْشٍ: يَا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا كُتُبَنَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالْقِطُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الصَّحِيفَةُ الْمَكْتُوبَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: وَلَا الْمَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمَ لَقِيتُهُ *** بِنِعْمَتِهِ يُعْطِي الْقُطُوطَ وَيَأْفِقُ يَعْنِي بِالْقُطُوطِ: جَمْعَ الْقِطِّ، وَهِيَ الْكُتُبُ بِالْجَوَائِزِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِمَسْأَلَتِهِمْ تَعْجِيلَ الْقِطِّ لَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا سَأَلُوا رَبَّهُمْ تَعْجِيلَ حَظِّهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} يَقُولُ: الْعَذَابُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} قَالَ: سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُعَجِّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ (لَنَا قِطَّنَا) قَالَ: عَذَابُنَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} قَالَ: عَذَابُنَا. حَدَّثَنِي بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} أَيْ نَصِيبَنَا حَظَّنَا مِنَ الْعَذَابِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ}... الْآيَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ إِنَّمَا سَأَلُوا رَبَّهُمْ تَعْجِيلَ أَنْصِبَائِهِمْ وَمَنَازِلَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرَوْهَا فَيَعْلَمُوا حَقِيقَةَ مَا يَعِدُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُؤْمِنُوا حِينَئِذٍ بِهِ وَيُصَدِّقُوهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ {عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} قَالُوا: أَرِنَا مَنَازِلَنَا فِي الْجَنَّةِ حَتَّى نُتَابِعَكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَسْأَلَتُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَكِنَّهُمْ سَأَلُوا تَعْجِيلَهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ثَابِتٍ الْحَدَّادِ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} قَالَ: نَصِيبُنَا مِنَ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سَأَلُوا رَبَّهُمْ تَعْجِيلَ الرِّزْقِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: ثَنَا أَشْعَثُ السِّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ فِي قَوْلِهِ {عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} قَالَ: رِزْقَنَا. وَقَالَ آخَرُونَ: سَأَلُوا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُمْ كَتَبَهُمُ الَّتِي قَالَ قَالَ اللَّهُ {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} فِي الدُّنْيَا، لِيَنْظُرُوا بِأَيْمَانِهِمْ يُعْطُونَهَا أَمْ بِشَمَائِلِهِمْ؟ وَلِيَنْظُرُوا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ هُمْ، أَمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ اسْتِهْزَاءٌ مِنْهُمْ بِالْقُرْآنِ وَبِوَعْدِ اللَّهِ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ سَأَلُوا رَبَّهُمْ تَعْجِيلَ صِكَاكِهِمْ بِحُظُوظِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ عِبَادَهُ أَنْ يُؤْتِيَهُمُوهَا فِي الْآخِرَةِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي الدُّنْيَا اسْتِهْزَاءً بِوَعِيدِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْقِطَّ هُوَ مَا وُصِفَتْ مِنَ الْكُتُبِ بِالْجَوَائِزِ وَالْحُظُوظِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ تَعْجِيلَ ذَلِكَ لَهُمْ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ قَوْلَهُ لِنَبِيِّهِ: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ مَسْأَلَتَهُمْ مَا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ لَمْ تَكُنْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ بِالَّذِي يُتْبِعُ الْأَمْرَ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً، وَكَانَ فِيهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذًى، أَمَرَهُ اللَّهُ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ قَضَاؤُهُ فِيهِمْ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ (عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا) بَيَانُ أَيِّ الْقُطُوطِ إِرَادَتُهُمْ، لَمْ يَكُنْ لَمَّا تَوْجِيهُ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ الْقُطُوطُ بِبَعْضِ مَعَانِي الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّ مَسْأَلَتَهُمْ كَانَتْ بِمَا ذَكَرْتُ مِنْ حُظُوظِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى مَا يَقُولُ مُشْرِكُو قَوْمِكَ لَكَ مِمَّا تَكْرَهُ قِيْلِهِمْ لَكَ، فَإِنَّا مُمْتَحِنُوكَ بِالْمَكَارِهِ امْتِحَانَنَا سَائِرَ رُسُلِنَا قَبْلَكَ، ثُمَّ جَاعِلُو الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ وَالظَّفَرِ لَكَ عَلَى مَنْ كَذَّبَكَ وَشَاقَّكَ سُنَّتَنَا فِي الرُّسُلِ الَّذِينَ أَرْسَلْنَاهُمْ إِلَى عِبَادِنَا قَبْلَكَ فَمِنْهُمْ عَبْدُنَا أَيُّوبُ وَدَاوُدُ بْنُ إِيشَا، فَاذْكُرْهُ ذَا الْأَيْدِ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ (ذَا الْأَيْدِ) ذَا الْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ الشَّدِيدِ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ) قَالَ: ذَا الْقُوَّةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنِي أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ (ذَا الْأَيْدِ) قَالَ ذَا الْقُوَّةِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} قَالَ: أُعْطِي قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ، وَفِقْهًا فِي الْإِسْلَامِ. وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ دَاوُدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ نِصْفَ الدَّهْرِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ {دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} ذَا الْقُوَّةِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} قَالَ: ذَا الْقُوَّةِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، الْأَيْدُ: الْقُوَّةُ، وَقَرَأَ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} قَالَ: بِقُوَّةٍ. وَقَوْلُهُ (إِنَّهُ أَوَّابٌ) يَقُولُ: إِنَّ دَاوُدَ رَجَّاعٌ لِمَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ إِلَى مَا يُرْضِيهِ أَوَّابٌ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: آبَ الرَّجُلُ إِلَى أَهْلِهِ: إِذَا رَجَعَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ (إِنَّهُ أَوَّابٌ) قَالَ: رَجَّاعٌ عَنِ الذُّنُوبِ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ (إِنَّهُ أَوَّابٌ) قَالَ: الرَّاجِعُ عَنِ الذُّنُوبِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ (إِنَّهُ أَوَّابٌ): أَيْ كَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ كَثِيرَ الصَّلَاةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ (إِنَّهُ أَوَّابٌ) قَالَ: الْمُسَبِّحُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ (إِنَّهُ أَوَّابٌ) قَالَ: الْأَوَّابُ التَّوَّابُ الَّذِي يَئُوبُ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَيَرْجِعُ إِلَيْهَا، ذَلِكَ الْأَوَّابُ، قَالَ: وَالْأَوَّابُ: الْمُطِيعُ. وَقَوْلُهُ {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ مَعَ دَاوُدَ بِالْعَشِيِّ، وَذَلِكَ مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ، وَالْإِشْرَاقِ، وَذَلِكَ بِالْغَدَاةِ وَقْتَ الضُّحَى. ذُكِرَ أَنَّ دَاوُدَ كَانَ إِذَا سَبَّحَ سَبَّحَتْ مَعَهُ الْجِبَالُ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} يُسَبِّحْنَ مَعَ دَاوُدَ إِذَا سَبَّحَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} قَالَ: حِينَ تُشْرِقُ الشَّمْسُ وَتَضْحَى. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ مِسْعَرِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّأُمَّ هَانِئٍذَكَرَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، صَلَّى الضُّحَى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ ظَنَنْتُ أَنَّ لِهَذِهِ السَّاعَةِ صَلَاةً، يَقُولُ اللَّهُ: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ}». حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ، قَالَ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: ثَنَا صَدَقَةُ، قَالَ: ثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ لَا يُصَلِّي الضُّحَى، قَالَ: فَأَدْخَلْتُهُ عَلَىأُمِّ هَانِئٍ، فَقُلْتُ: أَخْبِرِي هَذَا بِمَا أَخْبَرْتِنِي بِهِ، فَقَالَتْأُمُّ هَانِئٍ: «دَخْلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ فِي بَيْتِي، فَأَمَرَ بِمَاءٍ فَصَبَّ فِي قَصْعَةٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِثَوْبٍ فَأَخَذَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ رَشَّ نَاحِيَةَ الْبَيْتِ فَصَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، وَذَلِكَ مِنَ الضُّحَى قِيَامُهُنَّ وَرُكُوعُهُنَّ وَسُجُودُهُنَّ وَجُلُوسُهُنَّ سَوَاءٌ، قَرِيبٌ بَعْضُهُنَّ مِنْ بَعْضٍ، فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ يَقُولُ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ، مَا عَرَفْتُ صَلَاةَ الضُّحَى إِلَّا الْآنَ {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} وَكُنْتُ أَقُولُ: أَيْنَ صَلَاةُ الْإِشْرَاقِ، ثُمَّ قَالَ: بَعْدَهُنَّ صَلَاةُ الْإِشْرَاق». حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ مُتَوَكِّلٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ صَفْوَانٍ، مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، "أَنَّأُمَّ هَانِئٍابْنَةَ أَبِي طَالِبٍ، حَدَّثَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ دَخَلَ عَلَيْهَا ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ". وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ} مِثْلُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَسَخَّرْنَا الطَّيْرَ يُسَبِّحْنَ مَعَهُ، مَحْشُورَةٌ بِمَعْنَى: مَجْمُوعَةٍ لَهُ، ذُكِرَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَبَّحَ أَجَابَتْهُ الْجِبَالُ، وَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ الطَّيْرُ، فَسَبَّحَتْ مَعَهُ وَاجْتِمَاعُهَا إِلَيْهِ كَانَ حَشْرُهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَقْوَالَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْحَشْرِ فِيمَا مَضَى، فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ. وَكَانَ قَتَادَةَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً}: مُسَخَّرَةٌ. وَقَوْلُهُ (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) يَقُولُ: كُلُّ ذَلِكَ لَهُ مُطِيعٌ رَجَّاعٌ إِلَى طَاعَتِهِ وَأَمْرِهِ. وَيَعْنِي بِالْكُلِّ: كُلَّ الطَّيْرِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ): أَيْ مُطِيعٌ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} قَالَ: كُلٌّ لَهُ مُطِيعٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: كُلُّ ذَلِكَ لِلَّهِ مُسَبِّحٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} يَقُولُ: مُسَبِّحٌ لِلَّهِ. وَقَوْلُهُ (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ) اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ شَدَّدَ مُلْكَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: شَدَّدَ ذَلِكَ بِالْجُنُودِ وَالرِّجَالِ، فَكَانَ يَحْرُسُهُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، أَرْبَعَةُ آلَافٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} قَالَ: كَانَ يَحْرُسُهُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، أَرْبَعَةُ آلَافٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ الَّذِي شَدَّدَ بِهِ مُلْكَهُ، أَنْ أُعْطِيَ هَيْبَةً مِنَ النَّاسِ لَهُ لِقَضِيَّةٍ كَانَ قَضَاهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي ابْنُ حَرْبٍ، قَالَ: ثَنَا مُوسَى، قَالَ: ثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عِلْبَاءَ بْنِ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَعْدَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ عُظَمَائِهِمْ، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ دَاوُدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْمُسْتَعْدِي: إِنَّ هَذَا اغْتَصَبَنِي بَقَرًا لِي، فَسَأَلَ دَاوُدُ الرَّجُلَ عَنْ ذَلِكَ فَجَحَدَهُ، فَسَأَلَ الْآخَرَ الْبَيِّنَةَ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَقَالَ لَهُمَا دَاوُدُ: قُومَا حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِكُمَا، فَقَامَا مِنْ عِنْدِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى دَاوُدَ فِي مَنَامِهِ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلَ الَّذِي اسْتُعْدِيَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَذِهِ رُؤْيَا وَلَسْتُ أُعَجِّلُ حَتَّى أَتَثَبَّتَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى دَاوُدَ فِي مَنَامِهِ مَرَّةً أُخْرَى أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلَ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ الثَّالِثَةَ أَنْ يَقْتُلَهُ أَوْ تَأْتِيَهُ الْعُقُوبَةُ مِنَ اللَّهِ، فَأَرْسَلَ دَاوُدُ إِلَى الرَّجُلِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ أَقْتُلَكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: تَقْتُلُنِي بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا تَثَبُّتٍ؟ ! فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: نَعَمْ، وَاللَّهِ لَأُنْفِذَنَّ أَمْرَ اللَّهِ فِيكَ، فَلَمَّا عَرَفَ الرَّجُلُ أَنَّهُ قَاتِلُهُ، قَالَ: لَا تُعَجِّلُ عَلَيَّ حَتَّى أُخْبِرَكَ، إِنِّي وَاللَّهِ مَا أُخِذْتُ بِهَذَا الذَّنْبِ، وَلَكِنِّي كُنْتُ اغْتَلْتَ وَالِدَ هَذَا فَقَتَلْتُهُ، فَبِذَلِكَ قُتِلْتُ، فَأَمَرَ بِهِ دَاوُدُ فَقُتِلَ، فَاشْتَدَّتْ هَيْبَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ ذَلِكَ لِدَاوُدَ، وَشَدَّدَ بِهِ مُلْكَهُ، فَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ}. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ شَدَّدَ مُلْكَ دَاوُدَ، وَلَمْ يَحْضُرْ ذَلِكَ مِنْ تَشْدِيدِهِ عَلَى التَّشْدِيدِ بِالرِّجَالِ وَالْجُنُودِ دُونَ الْهَيْبَةِ مِنَ النَّاسِ لَهُ وَلَا عَلَى هَيْبَةِ النَّاسِ لَهُ دُونَ الْجُنُودِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَشْدِيدُهُ ذَلِكَ كَانَ بِبَعْضِ مَا ذَكَرْنَا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَانَ بِجَمِيعِهَا، وَلَا قَوْلَ أَوْلَى فِي ذَلِكَ بِالصِّحَّةِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ، إِذْا لَمْ يَحْصُرْ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ مَعَانِي التَّشْدِيدِ خَبَرٌ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ. وَقَوْلُهُ {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْحِكْمَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهَا النُّبُوَّةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ) قَالَ: النُّبُوَّةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِهَا أَنَّهُ عَلِمَ السُّنَنَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ}: أَيِ السُّنَّةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْحِكْمَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِشَوَاهِدِهِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ (وَفَصْلَ الْخِطَابِ) اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهِ أَنَّهُ عَلِمَ الْقَضَاءَ وَالْفَهْمَ بِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} قَالَ: أُعْطِيَ الْفَهْمَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} قَالَ: إِصَابَةُ الْقَضَاءِ وَفَهْمُهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} قَالَ: عِلْمَ الْقَضَاءِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} قَالَ: الْخُصُومَاتُ الَّتِي يُخَاصِمُ النَّاسُ إِلَيْهِ فَصْلُ ذَلِكَ الْخِطَابِ، الْكَلَامُ الْفَهْمُ، وَإِصَابَةُ الْقَضَاءِ وَالْبَيِّنَاتِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: فَصْلُ الْخِطَابِ: الْقَضَاءُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَفَصْلُ الْخِطَابِ، بِتَكْلِيفِ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ، وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، قَالَ: ثَنِي الشَّعْبِيُّ أَوْ غَيْرُهُ، عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} قَالَ: بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي، أَوْ يَمِينُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} قَالَ: نُبِّئْتُ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ: شَاهِدَانِ أَوْ يَمِينٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ دَاوُدَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ شُرَيْحًا قَالَ {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} الشَّاهِدَانِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ طَاوُسٍ، أَنَّ شُرَيْحًا قَالَ لِرَجُلٍ: إِنَّ هَذَا يَعِيبُ عَلَيَّ مَا أُعْطِيَ دَاوُدُ، الشُّهُودَ وَالْأَيْمَانَ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} قَالَ: الشُّهُودُ وَالْأَيْمَانُ. حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: ثَنَا دَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، فِي قَوْلِهِ {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} قَالَ: يَمِينٌ أَوْ شَاهِدٌ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} الْبَيِّنَةُ عَلَى الطَّالِبِ، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، هَذَا فَصْلُ الْخِطَابِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ قَوْلُ: أَمَّا بَعْدُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ، قَالَ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} قَالَ: قَوْلُ الرَّجُلِ: أَمَّا بَعْدُ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنِ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ آتَى دَاوُدَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَصْلَ الْخِطَابِ، وَالْفَصْلُ: هُوَ الْقَطْعُ، وَالْخِطَابُ هُوَ الْمُخَاطَبَةُ، وَمِنْ قَطْعِ مُخَاطَبَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ فِي حَالِ احْتِكَامِ أَحَدِهِمَا إِلَى صَاحِبِهِ قَطْعُ الْمُحْتَكِمِ إِلَيْهِ الْحُكْمَ بَيْنَ الْمُحْتَكِمِ إِلَيْهِ وَخَصْمِهِ بِصَوَابٍ مِنَ الْحُكْمِ، وَمِنْ قَطْعِ مُخَاطَبَتِهِ أَيْضًا صَاحَبَهُ إِلْزَامُ الْمُخَاطَبِ فِي الْحُكْمِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُدَّعِيًا، فَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى دَعْوَاهُ وَإِنْ كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ فَتَكْلِيفُهُ الْيَمِينَ إِنَّ طَلَبَ ذَلِكَ خَصْمُهُ. وَمِنْ قَطْعِ الْخِطَابِ أَيْضًا الَّذِي هُوَ خُطْبَةٌ عِنْدَ انْقِضَاءِ قِصَّةٍ وَابْتِدَاءٍ فِي أُخْرَى الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بَأَمَّا بَعْدُ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مُحْتَمَلًا ظَاهِرَ الْخَبَرِ وَلَمْ تَكُنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَيِّ ذَلِكَ الْمُرَادِ، وَلَا وَرَدَ بِهِ خَبَرٌ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتٌ، فَالصَّوَابُ أَنْ يَعُمَّ الْخَبَرُ، كَمَا عَمَّهُ اللَّهُ، فَيُقَالُ: أُوتِيَ دَاوُدُ فَصْلَ الْخِطَابِ فِي الْقَضَاءِ وَالْمُحَاوَرَةِ وَالْخُطَبِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهَلْ أَتَاكَ يَا مُحَمَّدُ نَبَأَ الْخَصْمِ وَقِيلَ: إِنَّهُ عُنِي بِالْخَصْمِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَلَكَانِ، وَخَرَجَ فِي لَفْظِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مِثْلُ الزُّورِ وَالسَّفَرِ، لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ: وَخَصْمٍ يَعُدُّونَ الذُّحُولَ كَأَنَّهُمْ *** قُرُومٌ غَيَارَى كُلُّ أَزْهَرَ مُصْعَبِ وَقَوْلُهُ {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} يَقُولُ: دَخَلُوا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ بَابِ الْمِحْرَابِ، وَالْمِحْرَابُ مُقَدَّمُ كُلِّ مَجْلِسٍ وَبَيْتٍ وَأَشْرَفُهُ. وَقَوْلُهُ {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ} فَكَرَّرَ إِذْ مَرَّتَيْنِ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ فِي ذَلِكَ: قَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُمَا كَالْوَاحِدِ، كَقَوْلِكَ: ضَرَبْتُكَ إِذْ دَخَلْتَ عَلَيَّ إِذِ اجْتَرَأْتَ، فَيَكُونُ الدُّخُولُ هُوَ الِاجْتِرَاءُ، وَيَكُونُ أَنْ تَجْعَلَ إِحْدَاهُمَا عَلَى مَذْهَبِ لَمَّا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذْ تُسَوِّرُوا الْمِحْرَابَ لَمَّا دَخَلُوا، قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ لَمَّا فِي الْأَوَّلِ، فَإِذَا كَانَ لَمَّا أَوَّلًا أَوْ آخِرًا، فَهِيَ بَعْدَ صَاحِبَتِهَا، كَمَا تَقُولُ: أَعْطَيْتُهُ لَمَّا سَأَلَنِي، فَالسُّؤَالُ قَبْلَ الْإِعْطَاءِ فِي تَقَدُّمِهِ وَتَأَخُّرِهِ. وَقَوْلُهُ (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) يَقُولُ الْقَائِلُ: وَمَا كَانَ وَجْهُ فَزَعِهِ مِنْهُمَا وَهُمَا خَصْمَانِ، فَإِنَّ فَزَعَهُ مِنْهُمَا كَانَ لِدُخُولِهِمَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ الْبَابِ الَّذِي كَانَ الْمَدْخَلُ عَلَيْهِ، فَرَاعَهُ دُخُولُهُمَا كَذَلِكَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ فَزَعَهُ كَانَ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَيْهِ لَيْلًا فِي غَيْرِ وَقْتِ نَظَرِهِ بَيْنَ النَّاسِ، قَالُوا: (لَا تَخَفْ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ لَهُ الْخَصْمُ: لَا تَخَفْ يَا دَاوُدُ، وَذَلِكَ لَمَّا رَأَيَاهُ قَدِ ارْتَاعَ مِنْ دُخُولِهِمَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ الْبَابِ. وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ مِنْهُ، وَهُوَ مُرَافِعُ خَصْمَانِ، وَذَلِكَ نَحْنُ. وَإِنَّمَا جَازٌ تَرْكُ إِظْهَارِ ذَلِكَ مَعَ حَاجَةِ الْخَصْمَيْنِ إِلَى الْمُرَافِعِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ (خَصْمَانِ) فِعْلٌ لِلْمُتَكَلِّمِ، وَالْعَرَبُ تُضْمِرُ لِلْمُتَكَلِّمِ وَالْمُكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ مَا يَرْفَعُ أَفْعَالَهُمَا، وَلَا يَكَادُونَ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بِغَيْرِهِمَا، فَيَقُولُونَ لِلرَّجُلِ يُخَاطِبُونَهُ: أَمُنْطَلَقٌ يَا فُلَانُ وَيَقُولُ الْمُتَكَلِّمُ لِصَاحِبِهِ: أَحْسَنَ إِلَيْكَ وَتَجَمَّلَ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُكَلَّمِ، لِأَنَّهُمَا حَاضِرَانِ يَعْرِفُ السَّامِعُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمَ إِذَا حُذِفَ الِاسْمُ، وَأَكْثَرُ مَا يَجِيءُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِفْهَامِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي غَيْرِ الِاسْتِفْهَامِ، فَيُقَالُ: أَجَالِسٌ رَاكِبٌ؟ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ خَصْمَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَقُولَا إِذَا جَاوَزْتُمَا أَرْضَ عَامِرٍ *** وَجَاوَزْتُمَا الْحَيَّيْنِ نَهْدًا وَخَشْعَمَا نَزِيعَانِ مِنْ جَرْمِ بْنِ رَبَّانَ إِنَّهُمْ *** أَبَوْا أَنْ يُمِيرُوا فِي الْهَزَاهِزِ مِحْجَمًا وَقَوْلُ الْآخَرِ: تَقُولُ ابْنَةُ الْكَعْبِيِّ يَوْمَ لَقِيتُهَا *** أَمُنْطَلِقٌ فِي الْجَيْشِ أَمْ مُتَثَاقِلُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: "مُحْسِنَةٌ فُهَيْلَى". وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «آئِبُونَ تَائِبُون» ". وَقَوْلُهُ: " «جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّه» " كُلُّ ذَلِكَ بِضَمِيرٍ رَفَعَهُ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} يَقُولُ: تَعَدَّى أَحَدُنَا عَلَى صَاحِبِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} يَقُولُ: فَاقْضِ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ (وَلَا تُشْطِطْ): يَقُولُ: وَلَا تَجُرْ، وَلَا تُسْرِفْ فِي حُكْمِكَ، بِالْمَيْلِ مِنْكَ مَعَ أَحَدِنَا عَلَى صَاحِبِهِ. وَفِيهِ لُغَتَانِ: أَشَطَّ، وَشَطَّ. وَمِنَ الْإِشْطَاطِ قَوْلُ الْأَحْوَصِ: أَلَّا يَا لِقَوْمٍ قَدْ أَشَطَّتْ عَوَاذِلِي *** وَيَزْعُمْنَ أَنْ أَوْدَى بِحَقِّيَ بَاطِلِي وَمَسْمُوعٌ مِنْ بَعْضِهِمْ: شَطَطْتَ عَلَيَّ فِي السَّوْمِ. فَأَمَّا فِي الْبُعْدِ فَإِنَّ أَكْثَرَ كَلَامِهِمْ: شَطَّتِ الدَّارُ، فَهِيَ تَشِطُّ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: تَشِطُّ غَدًا دَارُ جِيرَانِنَا *** وَلَلدَّارُ بَعْدَ غَدٍ أَبْعَدُ وَقَوْلُهُ {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} يَقُولُ: وَأَرْشِدْنَا إِلَى قَصْدِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ (وَلَا تُشْطِطْ) قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (وَلَا تُشْطِطْ): أَيْ لَا تَمِلْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ (وَلَا تُشْطِطْ) يَقُولُ: لَا تَحِفْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ (وَلَا تُشْطِطْ) تَخَالُفُ عَنِ الْحَقِّ، وَكَالَّذِي قُلْنَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} قَالُوا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} إِلَى عَدْلِهِ وَخَيْرِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} إِلَى عَدْلِ الْقَضَاءِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} قَالَ: إِلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ: الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ (وَلَا تُشْطِطْ) تَذْهَبُ إِلَى غَيْرِهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}: أَيِ احْمِلْنَا عَلَى الْحَقِّ، وَلَا تُخَالِفْ بِنَا إِلَى غَيْرِهِ.
|